السبت، 30 يونيو 2012

سقوط غرناطة .. بضع كلمات تفرضها علي مواجعي (الحلقة الثالثة)

3-محاكم التفتيش .. وصمة عار في تاريخ الإسبان

عندما توفي فرناندو الخامس ملك إسبانيا أوصى حفيده شارل الخامس بحماية الكاثوليكية والكنيسة واختيار المحققين لكي يعملوا بحزم " لتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يسحقوا طائفة محمد!" وقد لبث "فرناندو" زهاء عشرين عامًا بعد سقوط الأندلس ينزل العذاب والاضطهاد بمن بقي من المسلمين في أسبانيا.
ومع وصول شارل الخامس الحكم في إسبانيا لجأ إلى أساليب أكثر دهاءا وعنفا لمحاربة الموريسكيي فمنعوا من استخدام اللغة العربية سواء في الخطاب او الكتابة..ومنعوا الملابس العربية، ثم منع الخياطون والصاغة من الخياطة أو الصياغة على النمط الموريسكي، وحضر استعمال الحمامات، كما حضر استعمال الألقاب العربية...
وقد مورست في محاكم التفتيش معظم أفظع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى،  وأفظع أنواع الإرهاب الجسدي والنفسي.. فأزهقت آلاف الأرواح تحت وطأة التعذيب الوحشي حتى الموت، فكان ينفذ في الموريسكيين حكم الحرق في احتفال يشهده الملك والأحبار، وكانت احتفالات الحرق هذه تنظم جماعية، ويعد فرناندو الخامس من عشاق هذه الحفلات السادية، بل كان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها.
كانت الأمة الأندلسية خلال هذا الاستشهاد المحزن الذي فرض عليها، تحاول بكل وسيلة أن تستبقي دينها وتراثها، فعاش الموريسيكيون حينها أكبر محنة.. محاكم التفتيش..

ستظل محاكم التفتيش وصمة عار في تاريخ الإسبان، ستظل تذكيرا لهم بحجم العذاب الذي أذاقونا إياه.. ستظل تذكارا لإرهابهم المسبوق في التاريخ.. وتذكروا أنتم أيها المغاربة، أيها الموريسكيون... أيها المسلمون أينما وجدتم.. حين ينعتك أحدهم بالإرهابي.. ذكروه بمن أبدع في الإرهاب..
لن أتكلم كثيرا في هذه التدوينة، بل سأترك صور آلات التعذيب المعروضة في إحدى المتاحف هي التي تتكلم..
آلة لتهشيم رأس الموريسكي
آلة لتشويه الوجه (قمة السادية)
كرسي من المسامير يربط فيه المسلم حتى الموت (الإرهاب النفسي والجسدي)
آلة لتعليق المسلمين وتقطيعهم
المقصلة لقطع رؤوس الموريسكيين

ألات لقطع أصابع الأقدام والأيدي
إشارة: للمعلومات التاريخية راجع كتاب "مذابح وجرائم محاكم التفتيش" لمحمد علي قطب.
(يتبع)

الأربعاء، 27 يونيو 2012

سقوط غرناطة .. بضع كلمات تفرضها علي مواجعي (الحلقة الثانية)

2- المورسكيون.. رحلة الألم
         لوحة للرسام مانويل مورينو غونثالث تمثل طرد الموريسكيين من غرناطة
أفتتح هذه الحلقة باعتراف جميل قاله المثقف المستعرب الإسباني "خواكين بوستامانتي كوستا":  " إننا مدينون للمغاربة بالاحترام لأنهم أساتذتنا، ومدينون لهم بالحب لأنهم إخواننا، ومدينون لهم بالتقدير لأنهم ضحايانا"
قد تلخص هذه القولة تدوينتي هذه، إن لم أقل أنها تعكس تاريخ الأندلس منذ الفتح، إلى الآن.. لكن لا بأس من التذكير، فالذكرى تنفع المؤمنين..
"الموريسكيون" هم الأندلسيون المسلمون الذين تم تعميدهم قسرًا بمقتضى المرسوم الملكي المؤرّخ في 14 فبراير 1502م، لكن، ورغم هذا استمروا في ممارسة شعائر دينهم الإسلامي سرا وخفية عن أعين الواشين بعد 1502، فهم دخلوا المسيحية مكرهين، لذا تظاهروا بقبولهم الدين الجديد، فكانوا يترددون على الكنائس والأديرة، لكي يشاهدهم الإسبان فيأمنوا شرهم، ثم  يعمدون إلى غسل أبناءهم لإزالة آثار الصليب بعد تعميدهم، وكانوا يعقدون حفلات الزواج على الطريقة الإسلامية سرا بعدما يعقدونها في الكنائس.
ونظرا للصفة السرية التي مورست بها الشعائر الإسلامية في هذه الظروف الحرجة، فقد توارث الأبناء عن الآباء جيلا بعد جيل تعاليم الإسلام والتقاليد العربية في حلقات مغلقة، لها صفة المجالس السرية، كما ابتدعوا لغة خاصة بهم تسمى "الخميادو"( قشتالية بحروف عربية)، دونوا بها كل شيء، ولم يكتف المسيحيون بهذا، بل لاحقوا المورسكيين بمحاكم التفتيش، حيث عذبوا أبشع تعذيب.
الأحداث المأساوية تلك التي عاشها الموريسكيون في الأمة الأندلسية المغلوبة زهاء قرن من الزمان.. يصفها لنا محمد المقري التلمساني  في كتابه «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»  وصفًا مؤثرًا ومؤلمًا يعكس ما حل بالإسلام والمسلمين من طرف القساوسة الطغاة..من استرقاق الزوجات والأولاد ومصادرة الأموال والممتلكات، إلى تحويلهم لمحاكم التفتيش المروعة. 
لا أريد أن أستفيض في سرد الأحداث التاريخية، فهي موجودة في المصادر والمراجع التاريخية، بقدر ما أريد أن أرصد كم هذا الألم الذي عاناه الموريسكي.. في رحلة التهجير والتشريد.. حتى لا ننسى تاريخنا.. لنجدد هذا الوجع الجميل فينا.. فالغريب في الأمر أن يطرد الموريسكي من وطنه الأصلي الذي عمره أسلافه 898 سنة، ويطلب منه العودة من حيث جاء.. الموريسكي جذوره أندلسية، ولا يملك وطنا غير الأندلس..ومع ذلك خرج الموريسكيون من إسبانيا وتركوا فيها حضارة لا يمكن أن تموت.. لازالت شاهدة على مدنيتهم ورقيهم..
وقفة: لا أدري لماذا تذكرني حكاية الموريسكي دائما بحكاية الفلسطيني.. ربما لأنهما يشتركان في مأساة الطرد، والتهجير والتشرد.. فهل كتب علينا نحن العرب المسلمين أن نعيش الطرد والتهجير والتشرد عبر مراحل التاريخ؟..
(يتبع)...

الثلاثاء، 26 يونيو 2012

سقوط غرناطة .. بضع كلمات تفرضها علي مواجعي.. (في حلقات)


لوحة زيتية لپاديا توضح استسلام "أبو عبد الله " لفرديناند الثاني وإيزابيلا

هي استعراض مختصر لشريط الألم الساكن فينا.. لمن يجهل ما مضى.. وما أكثرهم..
الحديث عن سقوط غرناطة حديث ذو شجون، يحرك بداخلي مشاعر الأسى والحسرة..غرناطة –آخر قلاع المسلمين في إسبانيا-  والتي سقطت سنة (897 هـ/1492م)، فكان سقوطها إيذانا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، فكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التفتيش؛ لتطهير أسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد أزيد من ثمانية قرون.
لا أجد أجمل من الكلمات التي قالها الشاعر الإسباني "فرانسيسكو فيلاسبازا" والتي تعبر بصدق عن جذور العربي المسلم في الأندلس التي لا يمكن أن تجتث..أو تمحى..أو تنسى، حيث يقول : "لو نزعنا بعض الكلس عن جدران جل كنائسنا لألفينا تحته لمعا مذهبا لاسم الله الأقدس محفورا بحروف كوفية، ولو خدشنا بالأظافر بشرتنا الأوربية الصفراء لبرز لنا من تحتها لون بشرة العرب السمراء" 

والمعروف عن هذا الشاعر أنه يحب العرب كثيرا، وقد رثى أيامهم في الأندلس بقصائد جميلة.

1- من نقض العهود.. إلى التنصير القسري (الحلقة الأولى)
بعد سقوط غرناطة أبرمت معاهدة التسليم وفيها مجموعة من الشروط والحقوق والامتيارات لصالح المسلمين شرطها أهل غرناطة على ملك الروم؛ كضمان حرية التجارة والتنقل، وحرية ممارسة الشعائر الدينية،  ليأمنوا على أنفسهم ونسائهم وصبيانهم وممتلكاتهم وجميع ما بأيديهم، ثم الأمان لمن أراد الإقامة ببلدة غرناطة، ومن أراد السفر للمغرب فله ذلك، وكتب لهم لذلك كتابا وأخدوا عليه عهودا ومواثيق في دينه مغلظة على أن يوفى ما شرطوه عليه.
لكن في واقع الأمر، وحسبما أبدت الحوادث فيما بعد لم تكن هذه العهود سوى ستار للغدر والخيانة، فقد تم نقض كل الشروط وأجبر المسلمون بعد سقوط غرناطة على الهجرة خارج البلاد و التنصر، وكان هذا تمهيدا لتصفية الوجود الإسلامي بغرناطة نهائيا.
وفعلا لم يمر وقت قصير حتى بدأ الاسبان ينفذون مخططهم القاضي بتنصير المسلمين وبطرد من حاول البقاء على دينه، فنقضوا كل الشروط شرطا شرطا، وزالت حرمة الإسلام على المسلمين وأدركهم الهوان والذلة، واستطال النصارى عليهم، وفرضت عليهم الفروضات وثقلت عليهم المغارم، وقطع لهم الاذان من الصوامع، وأمروا بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى فخرجوا أذلة صاغرين، ويا حسرتاه.. ويصور لنا محمد عبد حتاملة في كتابه "التنصير القسري لمسلمي الأندلس"  مأساة المسلمين وهم يطعنون في عقيدتهم حيث أكرهوا على التنصر، فدخلوا في دينه كرها وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق من يقول فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله جهرا، إلا من يقولها في قبله أو خفيه من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان، والصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن... فكم فيها من عين باكية وكم من قلب حزين وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلا مدرارا، وهم يرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للاوثان، ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر .. فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم، لأن من يفعل ذلك يعاقب أشد العقاب في محاكم التفتيش، فيالها من فجيعة وما أمرها من مصيبة هي كانت على قلوب الأندلسيين ..
حتى لا ننسى..
 الفتوحات الإسلامية، سموها استعمارا لهم، وحروبهم الصليبية، يسموها حروبا للاسترداد.. هي تسميات تختلف، ووجهات نظر تتعارض.. لكن مع هذا وذاك.. يجب ألا ننسى الأهم:
- عندما دخل الإسلام الأندلس كان يحكمها أصلا القوط الغربيون الذين احتلوها أواخر القرن الخامس ميلادي، وقبلهم كان يحكمها الوندال وهم إحدى القبائل الجرمانية المتبربرة.. بالمقابل لما دخل الإسلام تحولت الأندلس إلى أكبر حضارة وعلى جميع المستويات..
- عندما فتح المسلمون الأندلس لم يقتلوا النساء والأطفال، لم يرغموا الناس على التخلي عن عقيدتهم أواعتناق الإسلام، لم يهدموا الكنائس، ولم يحولوها حتى إلى مساجد.. بل تركوها دورا للعبادة كما كانت.. وبنوا قربها مساجدهم..
- عندما دخل الإسلام إلى الأندلس احترم جميع الديانات، فعاش المسلمون جنبا لجنب في سلام وأمان مع المسيحيين واليهود، حيث تمتع غير المسلمين ضمن المجتمع الأندلسي بالعدل والإنصاف، وضمان الحريات الفردية والجماعية.
- بالمقابل.. عندما استرد القشتاليون الأندلس وانتصروا على المسلمين، أحرقوا الكتب والمكتبات، هدموا المساجد، أو حولوها إلى كنائس، قتلوا النساء والأطفال والشيوخ من المواطنين المسالمين، اختطفوا أطفال المسلمين الأقل من 7 سنوات بعد أن طردوا آباءهم إلى ما وراء البحار... ارتكبوا أفظع جرائم البشرية في التاريخ..
(يتبع)...

إشارة: المعلومات التاريخية مستقاة من دكتوراه أستاذي الفاضل د.رزوق "أستاذ تاريخ الأندلس"،  البحث موجود بخزانة جامعة محمد الخامس بالرباط تحت عنوان: "الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 و17" ، 1987.
وكتاب: "التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين" ل محمد عبده حتاملة، الأردن، 1980.

الاثنين، 25 يونيو 2012

مسرحية " أربع ساعات في شاتيلا" .. مسرحية تسكنني للأبد



أدركت أني سأكون مجحفة، إذا تحدثت عن ثريا جبران، ولم أتحدث عن أهم أعمالها –على الأقل بالنسبة لي- مسرحية " أربع ساعات في شاتيلا"
هذه المسرحية لا يمكن أن تشاهدها وتخرج من قاعة العرض كما دخلتها.. إنك تخرج أشلاء وشظايا محطمة.. تحاول أن تلملم شظاياك المنكسرة لتصل إلى مسكنك.. لكن المسرحية ستظل تسكنك إلى الأبد..

هذه المسرحية هي آخر أعمال ثريا جبران وفرقة "مسرح الحي"  لموسم 2002،تأليف الكاتب والصحفي الفرنسي جان جينيه .. ترجمه للغة لعربية الكاتب المغربي محمد برادة.
جان جونيه –كما يحكي محمد برادة- عاش مدة مع الفدائيين الفلسطينيين في جبال جرش وعجلون بالأردن،عاش معهم حياتهم اليومية واستعداداتهم للاستشهاد... وما سجلته ذاكرة جونيه ونصوصه، هو ذلك الجمال اللايسمى الذي يجلل الفدائيين في علاقتهم بالموت، وذلك الحضور الكاسح للأمهات الفلسطينيات المتدثرات بفساتين نسجتها أصابعهن خلال ساعات الوحدة والانتظار...
"عندما يغيب التاريخ تضيع الحقيقة"، ربما كانت هذه الجملة هي التي أوحت لأحد ما أن يكتب عن مجازر الإسرائيليين كي تظل حاضرة في ذاكرة الأجيال القادمة حتى لا تفقد القضية مشروعيتها..
 وجان جينيه يقول في نصه : "لم أكن أشاهد دمار بيروت كنت أشاهد موت الإنسان"، هذه هي القضية الفلسطينية بالنسبة لجينيه، إنها اختبار لضمير العالم..

مسرحية " أربع ساعات في شاتيلا" تدخل في إطار المسرح المناضل، مسرح يفضح الواقع الاجتماعي والسياسي المزري الذي يعيشه الإنسان العربي، والظلم الذي تتعرض له الشعوب المستضعفة من طرف الحكام من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى.
وتبقى هذه المسرحية تأريخا للحظة تاريخية لا تنسى.. لتذكرنا بمجازر الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني، لا لشيء سوى أنهم يطمحون لوطنهم الحر الكريم..

الأحد، 24 يونيو 2012

ثريا جبران.. فنانة أقبرت حياتها الفنية بالوزارة..


أحببتها كفنانة، مناضلة، قوية.. شامخة على خشبة المسرح..
وأشفقت عليها كوزيرة للثقافة حين ظهرت على شاشة التلفزة في نشرات الأخبار تقدم تعليقاتها وتصريحاتها خائفة مذعورة..
انتهت حياتها السياسية بالفشل الذريع.. ومنذ ذاك الحين انزوت في الظل.. انتهت
ثريا جبران صاحبة الطلة الوازنة، والحضور القوي، مع فرقة الحي، صاحبة نص متماسك.. حمولة فكرية وثقافية عميقة مع إيحاءات ضخمة.. فارتبطت أعمالها المسرحية بالبسطاء، وبرعت في أداء أدوار تعبر فيها عن معاناة المحرومين والضعفاء..
مسرح ثريا جبران تاريخ العطاء اللامحدود "حكايات بلاحدود"، "الشمس تحتضر"، "أيام العز"،  "طير الليل"، "امرأة غاضبة"، "الجنرال"، وغيرها من الأعمال المسرحية...
ختمتها بالعمل المسرحي الرائع "أربع ساعات في شاتيلا" كأنما تختم بالموت، كأنما تنبأت لنهاية حياتها الفنية بعدما اختارت مرغمة أو عن طواعية الخوض في معركة فاشلة مع حقيبة ثقيلة بأزمات وملفات مثخنة، كحقيبة وزارة الثقافة..
ثريا الطيبة، الحنونة.. كما التقيتها آخر مرة عند زيارتها لمدينتي آسفي،، عند عرضها لمسرحية "أربع ساعات في شاتيلا"
كانت متواضعة حد التماهي، حنونة حد الأمومة..
نعم.. كانت مثلنا الأعلى في مسرح الهواة.. كانت مثلنا الأعلى في العطاء والإبداع.. في قوة التأثير..في الإنسانية.. فالفنان يجب أن يكون إنسانا قبل كل شيء ليكون صادقا في فنه..
نعم افتقدناها.. وافتقدتك خشبة المسرح التي أصبحت فارغة بعدك.. صامتة.. صمت الموتى.. صمت أربع ساعات في شاتيلا..
هكذا إذن.. استوقفني مطوي المسرحية حين عثرت عليه في أحد أدراج مكتبي.. فجعلتها وقفة لأجل ثريا جبران.. لكن ثريا تستحق أكثر من وقفة وفاء لها..

الأربعاء، 20 يونيو 2012

كتاب "لا تحزن" نسخة إسلامية لكتاب "دع القلق وابدأ الحياة" لمؤلفه الأمريكي ديل كارنيجي



عندما قرأت كتاب "لا تحزن" للدكتور عائض القرني، أصبت بخيبة أمل لأني   اكتشفت وللأسف أنه النسخة  الإسلامية لكتاب كنت قرأته منذ سنوات اسمه "دع القلق وابدأ الحياة"
» «  how to stop worrying and  start living لمؤلفه الأمريكي ديل كارنيجي،  وقام بترجمته إلى اللغة العربية عبد المنعم محمد الزيادي
هذا الكتاب قرأته  منذ سنوات، ولازلت أحتفظ بالنسخة التي أهداها لي أخي، وهي من الطبعة السادسة عشرة، المطبوعة سنة 1994، منشورات مكتبة الخانجي بالقاهرة، مكتبة التحرير  بغداد.
مع احترامي للدكتور عائض القرني، ومكانته العلمية، إلا أني سجلت مجموعة من الملاحظات، دونتها منذ مدة بعد قراءتي لكتابه "لا تحزن" وهي رؤية نقدية شخصية ومتواضعة، رغم أنها جاءت متأخرة شيئا ما..
- كتاب "لا تحزن"   اتكأ بشكل كبير على ما جاء في كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" للأمريكي ديل كارنيجي مؤسس معهد العلاقات الإنسانية بنيويورك
- اعتمد د.عائض القرني على أهم الأفكار التي جاءت وحاول أن يسوقها في طابع شبه خاص، عندما أرفقها بتجارب شخصية له، أو لأشخاص يعرفهم
- اعتمد الغطاء الديني، بالاستناد على مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وهو بهذا يوجه الكتاب لشريحة من القراء المسلمين بالدرجة الأولى. كما أورد أقوالا وأشعار لبعض الأدباء العرب.
- للأسف لم يشر د.عائض القرني للكتاب الأصلي الذي اعتمد عليه إلا من بعيد في فكرة أو فكرتين، دون الاعتراف بأن كتابه هو نسخة إسلامية للكتاب الأمريكي الذي صدر بالإنجليزية  وترجمه للغة العربية سنة 1980 عبد المنعم محمد الزيادي، كما ترجم  إلى عدة لغات أجنبية
- للإشارة الكاتب الامريكي كارنيجي يعتبر من أنجح الشخصيات الأمريكية، وهو باحث في العلاقات الإنسانية،  اشتغل بتدريس فن الخطابة منذ عام 1912، وبعد النجاح الذي لاقاه أنشأ معهدا خاصا في نيويورك سماه " معهد كارنيجي للخطابة المؤثرة والعلاقات الإنسانية
 The dale caronegie instituete of effective speakine and human relation  » » ، وقد أصبح لهذا المعهد أكثر من ثلاثمائة فرع.
- كما ألف ديل كارنيجي كتبا في نفس المجال منها:
 "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس"  how to win frennds and iniluenece people » » وقد أعيد طبع هذا الكتاب ستا وخمسين مرة في ظرف إثني عشرة سنة، وترجم إلى أكثر من خمسين لغة، منها اللغة العربية أيضا على يد نفس المترجم عبد المنعم محمد الزيادي.
- هناك مجموعة من الخلاصات التي أوردها د. القرني نجدها نفسها في كتاب كارنيجي مثل "لا تحاول أن تنشر النشارة"  ، "اصنع من الليمون شرابا حلوا" ....
هذه مجموعة من الملاحظات بعجالة، وأنصح بقراءة الكتابين معا، لتتضح المقارنة..

قبل أن أنهي تدوينتي، أحب أن أقول أن الكتاب ليس شيئا مقدسا، ولا الكاتب.. لأنه يموت بعد كتابة الصفحة الأخيرة.. وبعد ذلك يصبح كتابه ملكا للقراء..

الثلاثاء، 19 يونيو 2012

سلطة الكلمة..



الكلمة صعبة، محرقة، كأنما هي جمرة ملتهبة، إنها مسؤولية.. والمسؤولية ثقيلة تنأى عن حملها الجبال، الكلمة حياة، وحزن، وقد تكون موت.. والموت حياة عندما يكون في سبيل الكلمة..
كلماتي كثيرة، وأشعاري أكثر، أكتبها في قلبي قبل أن يسمعها المقربون لتنزوي خجلا في مذكراتي وأوراقي المتراكمة دائما وأبدا، قد يقرأها أولادي وأحفادي من بعدي..
أشعاري حالات تتملكني، طوارئ، جنون  ينتابني لحظات متفرقة.. ودون سابق إنذار..وعندما أتوب لرشدي أتمنى الجنون، وعندما أجن أتمنى العودة إلى رشدي.. إنها المعادلة الصعبة.. شعري/كلماتي قليلة، فأغلبها مزق قبل أن يقرأه غيري، لم أرض عنه، لم يعجبني هذا المولود فقتلته في المهد، حتى لا يثير غضبي كلما رأيته رديئا..
كلماتي ليست إلا عاطفة صادقة..إحساس.. حالة مبهمة..
الكلمة تساوي كل شيء ينبض، لأنها هي الأخرى تنبض، تخترق القلوب، والجدران الصماء، تهد الجبال، تذيب الثلوج والجليد، ترفع الآهات، وتنطق الجماد..
الكلمة حمام زاجل يحمل رسائل لم يستطع بشر حملها، ويرف بها على القلوب المغلقة، حتى تشرع أبوابها..
الكلمة حنان وحب.. غضب وقسوة.. ثورة ولهيب..
         يهابها الكثيرون رغم صغرها..لأن لها سلطة..

الأحد، 17 يونيو 2012

العابرون


العابرون في هذه الحياة كثر.. 
هناك أناس يعيشون معك حياتك كلها، لكن لا يؤثرون فيك قيد أنملة، كأنما لم يمروا في حياتك إطلاقا... وهناك أناس آخرون عابرون لحياتك، قد يمرون صدفة..أو قد تتقاطع الطرق،  لكن يؤثرون فيك إلى الأبد، يبصمون حياتك ببصمة خاصة ... يغيرون فيك الكثير.. حتى ليستحيل نسيانهم..
العابرون.. أناس عاديون، بسيطون.. لكن بالنسبة لك يراودك إحساس أنك صادفتهم في مكان ما.. في حياة ما ربما.. تحس أنك عشت معهم من قبل..تحس  أن روحيكما متآلفتين.. وهذا ما حدثنا عنه رسولنا الكريم ، حين قال في رواية لأبي هريرة. "الأرواح جنود مجندة . فما تعارف منها ائتلف . وما تناكر منها اختلف".

"نعيمة " كانت من هذا الصنف.. تقاطعت حياتينا لفترة، وفرقت بيننا المسافات والأزمنة ..  لكن شكلت في حياتي انعطافة مهمة.. تعلمت فيها معنى الانتماء.. معنى الاخلاص للمبادئ والقيم.. وتعلمت منها أن النذالة والضمائر الميتة لا تنتصر أبدا..
وأنا أراجع بعض دفاتري القديمة، وجدت هذه الخربشات التي كتبتها في لحظة ما .. منذ سنوات عديدة..

                    أشياء للذكرى
الإهداء: إلى نعيمة.. إلى من علمتني الكثير..كيف أشكرك؟..

مطر
تساقط  المطر
الحر من ضلوعنا اندثر..
بلهفة نجري من هنا..لهناك.. ويسود السكوت
إلا وقع قطرات المطر
سكوت وسكوت
هكذا هو المطر
لا الشمس بعد اليوم ولا القمر
يزورنا في حلكة الليالي
لا صخب ولا سهر
لا ولا يبقى أثر..
للحب..للكره.. للآثام
فسبحان مبدل الأحوال
       ..............
ما أجمل الأشياء حين تكون نابعة من القلب
خالية من أي قيود
بسيطة دون لقب..
ما أجمل أن نبتسم من القلب
أن نشجع من يرسم أو يكتب
رسالة أو عربون وفاء
فما أجمل الأشياء
      ...............
كيف للشمس أن تذوي
كيف للأرض أن تصمت
أنت كل ما في
أنت موهبتي.. فلا تتركيني أمقت
كل هذا  الخواء من حولي
كل هذا العالم الأخرق
كل شيء لا يعني  ما نريد
حين يفرض على بعض البشر
فكيف نرضاه.. بأي حق؟..
لا ترفضيهم بل قولي
أن الصمت مهما طال قد يفيد
أن الحزن مرسوم على وجه القمر.. بأنفة وكبرياء
وأن الشمس لكي تعود ليوم جديد..
فهي تبكي حمرة في الضياء
    .................
لا تقولي أني أحلم
قد تكون الحياة صعبة
وقد يكون الموت أحسن
قد تكون المشاكل نعمة.. صبها الخالق علينا لنتقن
سر الكون ونفهم
وقد تكون وقد تكون.. لكن الأهم
أن الأماني كبيرة
وأفضلها قادم..

الجمعة، 15 يونيو 2012

باب المغاربة...لا للتهويد


"باب المغاربة" ..هذا الاسم هو مفخرة لنا كمغاربة، ومصدر اعتزاز بتاريخنا المغربي الممتد من المحيط إلى أرض الإسراء .. نحن جيل المستقبل.. من ورثنا الهزائم والانتكاسات.. نحن جيل أحب فلسطين حتى النخاع، ومع كل قطرة حب، تنزف قطرات دموع على كل الانكسارات التي تكبلنا..

 فقد خص أهل القدس المغاربة دون سواهم بإطلاق اسمهم على حي ملاصق للحرم الشريف في بيت المقدس (حي المغاربة)، وبابه من أهم أبواب الحرم وأقدمها ، كما كان يسمى أيضا "باب النبي" حيث اختاره الرسول المعظم ليعبر منه إلى الحرم المقدسي في إسراءه ومعراجه

  عيوننا إليك ترحل كل يوم  ..

قديما رحل إليك أسلافنا، حاجين، فاتحين، ناصرين منصورين.. أما نحن،  فعيوننا الآن ترحل إليك كل يوم..
لقد كانت القدس عبر التاريخ مقصدا للمغاربة و محطا لشوقهم وترحالهم واهتمامهم ، متأثرين بمكانتها الدينية المعروفة، حتى أصبحت مقاما للكثيرين من العلماء والوجوه والزهاد والصوفيين المغاربة الذين فرضوا وجودهم ومكانتهم هناك ، بل غدت المدينة أرضا يصبوا الكثيرون منهم إلى العيش فيها لمجاورة الحرم الشريف بقية عمرهم فيدفنوا فيها.

سكن المغاربة إذن  بجوار الجدار الغربي للمربع القدسي، وقد كان صلاح الدين الأيوبي هو من وقف هذه الأرض للمغاربة وأسكنهم عند الحائط الغربي، و هذا كرم منه للمغاربة بعد معركة "حطين"، بعد استرداد المسجد الأقصى سنة 583هـ، إذ تمسك بهم وأسكنهم في هذا المكان من غرب المسجد الأقصى، وقد سأله بعض حاشيته وقادته لماذا تفعل هذا، فقال: " أسكنت بالبطن اللين (السهل المنبسط) بالمكمن الخطر على القدس، من جهة قد يصل الصليبيون إليها بمراكبهم من الشاطئ الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، أسكنت من يفتكون في البحر ويفتكون في البر، أسكنت المغاربة... لا أستأمن أضعف نقطة في بيت المقدس إلا أهل المغرب..."

   لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة  المدائن..
يقدر المؤرخون أن بداية إقامة المغاربة ببيت المقدس تعود إلى عام 909 ميلادية الموافق 296 هـ .
ومن بين الأسباب التي دفعت بأجدادنا المغاربة إلى القدس هي الجهاد في سبيل الله والدفاع عن المدينة والذود عنها خلال الحروب الصليبية، إلى أن اكتمل النصر وتم تحرير القدس من الصليبيين .

واختار المغاربة بعد تحرير المدينة، أقرب مكان من المسجد الأقصى ليستقروا فيه ، وكان في الركن الجنوبي الغربي لحائط الحرم الشريف .. وعرفانا منه بدورهم وبلائهم الحسن في تحرير المدينة، أوقف الملك الأفضل ابن صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة عليهم سنة 1193 ميلادية، وسميت ب "حي المغاربة" ، وكان يضم بين جنباته إلى جانب المنازل ، مرافق عديدة لخدمة آهليه ، ومدرسة بناها لهم الملك الأفضل سميت "المدرسة الأفضلية" نسبة إليه ، وقد عملوا مذ ذاك على صيانة وحراسة حائط البراق ( الذي تحول اسمه في عهد الاحتلال الصهيوني إلى حائط المبكى ) كما عملوا على تنمية وقفهم واقتناء عقارات جديدة مجاورة ، وحبسها صدقات جارية.

و ظلت تلك الأوقاف محفوظة محط احترام أهلها واهتمام كل من أنيط به حكم تلك البلاد حتى اجتاحها الصهاينة عام 1967 وأرادوا أن يعجلوا بالانتقام من الجالية المغربية التي لم تتوان يوما عن حماية تلك المقدسات، فما أن دخلوا القدس في 5 يونيو حتى أقدموا في العاشر منه على طرد سكان حي المغاربة ليهدموه بالكامل ويسووه بالأرض، وقد دفن عدد منهم تحت الأنقاض، لأن سلطات الاحتلال أمهلتهم نصف ساعة فقط حتى يخلوا بيوتهم.

 حين هوت مدينة القدس..

 تراجع الحب وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب..

هكذا ، خلال أيام معدودة أزالت إسرائيل تاريخا امتد ثمانية قرون ، شهد على تعلق أهلنا ومحبتهم لبيت المقدس الذي هبوا في يوم للدفاع عنه ولنصرته ضد الصليبيين ، فقدر لهم جميلهم وحفظه لهم.

استولى الاستعمار الصهيوني على حي المغاربة، وحاليا  يسعون لتهويد محيط المسجد الأقصى المبارك، وتغيير المعالم الإسلامية في القدس والأقصى أمام صمت مريب للأمة الإسلامية..                         

    بأيدينا سنعيد بهاء القدس.. بأيدينا للقدس سلام. 

الأحد، 10 يونيو 2012

لوركا...مجرد حنين..


رثاء البداية:
« وعرفت أنني قتلت..
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط»

    بهذه الكلمات كان قد تنبأ لوركا بأنه سيموت مقتولاً وبأن أحداً لن يجد جثته رغم البحث عنها
.
كلما قرأت شعرا للوركا انتابني كم هائل من الألم، وجرفتني أحاسيس متناقضة  لا أدري كنهها.. لعلها نفس الأحاسيس التي دفعت غيري ممن كتبوا عنه الكثير الكثير..
فلوركا علمني كيف أصرخ من الداخل لأجل الحب،لأجل الحرية، ولأجل الإنسانية المقهورة، وهو الذي تغنى دوما بالعذاب الروحي الذي يعتصر قلوب الضائعين في هذا العالم المتوحش..
لوركا وحياته وأعماله موضوع خصب وعميق قدر العمق الروحي والإلهام السامي الذي كان يبدعه، وفرصة الحديث عن لوركا لا تسعها مئات الصفحات، فلوركا لم يكن شاعراً شعبياًً فحسب بل كان رساماً وملحناً وعازفاً..وعلى الرغم من حياته القصيرة- إذ توفي وهو دون الأربعين- فإنه يعتبر أشهر شعراء الطليعة في إسبانيا، وأكثرهم أصالة، و ثقافة ، فهو بصيته الذائع في ميدان الشعر والأدب المسرحي يدين لموهبته الفطرية وقدرته العبقرية الملهمة على الغوص إلى القيم الشعرية الحقة في كل ما يحيد به من مظاهر الطبيعة أو ظواهر الحياة..

الشعر عند لوركا: إن الشعر قبل كل شئ هو أعجوبة المشاعر والاحساس، أعجوبة الصوت، وأعجوبة ذلك " القليل" الذي من دونه لن يكون للفن معنى. إنه شيء غير خاضع للتفسير.وأكيد أن الناس المحرومون من هذه الاذن الداخلية الموسيقية لن يفهموا لوركا. فميزة الشعر انه يقوي شعور المتلقي، وإلا فسيكون هذا الشعر من دون معنى وعقيم.

لوركا قبل كل شيء شاعر أندلسي ثم غرناطي، وهو يدين بكثير من مقومات تكوينه الروحي لغرناطة المدينة التي درج فيها وجرت أولى تجاربه في الحياة والفن. ومن المعروف ما لهذه المدينة الأندلسية الجميلة من تاريخ إسلامي عريق، فقد ظلت عربية اللغة إسلامية الدين حتى مشارف العصر الحديث (1492هـ) وهذه الخلفية من التراث العربي الإسلامي في حياة غرناطة ينبغي ألا تغيب حين نتحدث عن غارسيا لوركا الذي كان عميق الإحساس بأنه لم يكن إلا نتاج بلده وبيئته.
لقد جدد لوركا في القصيدة المعاصرة باعتماده على الفلكلور الأندلسي. كما كان معروفا عليه أنه مناصر للفقراء، والفلاحين والمضطهدين، شغوف باللغة العربية التي نجد آثارها في دواوينه الشعرية.
كثيرا ما تطل علينا من قصائد لوركا ليس فقط الروح الأندلسية وحسب، بل روح غرناطة  التي حدثنا لوركا نفسه عنها حديثا ممتعا.
ونرى مثلا لهذا في قصيدته "الأنهار الثلاثة los tres rios" التي يفتتح فيها قصيدته الطويلة عن "الغناء الأندلسي poema del cante jondo" (1921) وهو يعني بهذه الأنهار الوادي الكبير reo guadal quivir، نهر قرطبة واشبيلية، ثم النهرين الصغيرين "حدره و خنيل (rio darro- rio genil) اللذين تقع غرناطة عليهما، وهو في المقارنة بين المدن الواقعة على ضفافها: قرطبة واشبيلية على الوادي الكبير وغرناطة، وهو يتغنى هنا شعرا، ويرى اشبيلية مشعرة بلذة الحياة ومتعها. إذ أن نهرها يجري بين أشجار البرتقال والزيتون، وهو نهر تجري فيه المراكب، أما نهرا غرناطة فهما ينزلان من قمم الجليد. تلك القمم المشرفة عليها، والتي كان العرب يسمونها جبل الثلج "seirra nevada وهو يتصور أحد هذين النهرين  دما والآخر دموعا، ولا مجاذيف فيهما إلا الزفرات.. صورة أخرى حزينة باكية كأنها تذكرنا بذلك  الجبل القريب من غرناطة، والذي تدعى أحد قممه "زفرة العربي" (EL suspiro del moro)، إذ كان آخر مكان ألقى فيه أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة المسلمين نظرة الوداع الأخيرة على بلده الذي طرد منه، فندت عنه تلك الزفرة التي أصبحت علما على ذلك المكان. ويزداد الطابع الحزين  في القصيدة كلها بذلك القفل المزدوج الذي يختم به مقطوعاته:
" آه من الحب
الذي ذهب ولم يعد"
"أه من الحب
الذي طارت به الريح"
وهو قفل يزيد في مأساوية القصيدة وسواد ألحانها..

والحقيقة أنه لا يسهل تمثل القطع التي تتألف منها هذه القصيدة إلا لمن أتيحت له متعة هذا المزاج الغريب من اللذة والألم عند الاستماع إلى مجيدي "الغناء  من الأعماق" "كانطي خوندو"، فهو غناء ينطلق من قاع نفس المغني كأنما تنشق روحه عنه – و من هنا جاءت تسميته ب "العميق" jondo- وهو ينطلق هامسا مرة صارخا مرة أخرى، باكيا في معظم الأحيان، وتتخلله آهات مستطيلة مجهشة، ولا ترافقه إلا نغمات القيثارة الأندلسية .
دعونا نصغي له هنا  متغنيا بغرناطة، حين يقول :
مِن أَجلِْ ذاك الذي يَحْلُمُ التَّعَبَ و القيثارَة،
فَأنْتِ الشّمْسُ التي تُنیرُ الطّرُقات.
أَنْتِ مَن يُساوي كُلّ جَمال،
في اللَّوْنِ و الضِّياءِ و الموسيقى.
نصغى لهذا الحنين، و لهذا الإشتياق، و لهذا الحب الغابر الممزوج بسهام الشمس الحمراء، بأغصان البرتقال وشذى القرنفل و الياسمين. ھكذا ندرك عمق ھذا الحب، الذي كان يستحوذ على نفس لوركا العميق، و روح الفضاء الأندلسي الساكن بأعماقه.
و من ھذا العمق يأتينا صوته قائلا:
أَنْدَلُس .. يا أَنْدَلُس،
يا ذاتَ الطّرُقات الحَمْراء .. !
مِن غُرفَْتي الغَرْناطِية،
تَنْتَهي إليّ رَشّاتُ الماء،
فَأَحْلُم بِأَنّي صاحٍ.
آه عَلَيكِ أَيّتُها الصَّوْمَعَة !
أَبكي دُموعَكِ المَشْرِقِية.
و من قصيدة أخرى لحبيبته غرناطة:
أَجْراسُ الفَجْر،
القادِمَة مِن غَرنْاطَة !
كُلّ البَناتِ يَسْمَعْنَكِ،
و يَبْكينَ "شُمّيسَة" الوَديعَة
المَغْمورَة بِالحُزْن.

و في قصر الحمراء يقول:
ھِي "الحَمْراء" سَلالِمٌ مِن ذَھَبٍ و حَرير،
و الحَديقَةُ الصّامِتَة تَحتَ القَمَر،
حَيثُ تَنامُ اِمرَْأَة فاتِنَة.
ثم يتعالى صوته الشاعري ليحتضن كل غرناطة قائلا:
قَمَرٌ أَنْتِ يا غَرْناطَة،
غارِقٌ تَحتَ عُشْب اللّبْلاب.
غَزالَة أَنْتِ يا غَرْناطَة،
وَرْدِيّةٌ في دَوّاراتِ الرّيح.
و في غَرْناطَة كُلّ مَساء،
كُلّ مَساء طِفْلٌ يَموت،
و الماءُ كُلّ مَساء
يُدَرْدِشُ مَع أَصْدِقائِه.
آه ! لَكَم أَوَدّ أَن أَنْزل في البِئْر،
أُريدُ أَن أَتَسَلّقَ جُدْرانَ غَرْناطَة،
كَيما أَرى القَلْبَ الذي مَضى،
تَحْتَ مَياسِمِ المِياهِ القاتِمَة.
رثاء النهاية
ترك لوركا وراءه ثورة وثروة لا تنضب رغم الفترة القصيرة التي عاشها ترك كلمات لا تندثر عبر تاريخ الأدب العالمي المعاصر أثرت في لاحقيه من كبار الشعراء، فقد رثاه محمود درويش بقصيدة حملت اسم (لوركا) قائلاً:
«عفوَا
زهرِ الدم يا لوركا وشمسٌ في يديك
وصليبٌ يرتدي نارَ قصيدة
أجمل الفرسانِ في الليلِ يحجّون إليك
بشهيدٍ وشهيدة
هكذا الشاعرُ زلزال وإعصارُ مياهْ
 ورياحٌ إنْ زأرْ
 يهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ
فتطايرْ يا حجرْ ».
كما جاء في قصيدة للسياب بعنوان »  غارسيا لوركا «
في قلبه تنورْ
النارُ فيه تُطعمُ الجياع
والماءُ من جحيمهِ يفورْه
طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ
ومقلتاهُ تنسجانِ من لظىً شراعْ
 تجمعان من مغازل المطرْ
خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ. (20)
هو إذن مجرد حنين.. لشاعر اختفت جثته، لكن روحه بقيت عالقة في قلوب كل المحبين..