الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

قدر حزين..




ملحوظة: إنها ليست تدوينة.. إنها حكاية قديمة.. إنها مجرد نمنمات.. وجدتها مبعثرة في أرشيفي..  فلا تهتموا بها..

     سألته بحدة مصطنعة:
-         لماذا تغيبت أمس؟
       كان سؤالا عاديا، أطرحه بحدة عادية، لحالات غياب عادية، يقومون بها أحيانا لأسباب عادية أو واهية..  لذا حين سألته لم أكن أنتظر جوابا شافيا، بل لم أتوقع حتى أن يكلف ميلود نفسه فيجيبني.. أغلب الحالات كانت تبدأ بالصمت، أحيانا أجرب بعض ما علمونا أو ما قرأت في علم النفس، أو بعض الحيل البسيطة حتى أحصل على الجواب الشافي.. فالأطفال عالم غريب وعميق.. لا يمكنك ولوجه بسهولة كما يعتقد البعض..
      نظرت مليا في عيني ميلود.. هذا الطفل ذا الجمال الأجنبي.. شعر أشقر وعينين خضراوتين، وملامح تذكرني دائما بأحد أبطال سلسلة أمريكية كنت أشاهدها أسبوعيا.. لا أتذكر اسم الممثل، لكني أتذكر جيدا تسريحة شعره.. هي نفسها تسريحة شعر ميلود.. فقط تسريحة تلميذي كانت طبيعية، ولا تحتاج ل "جيل" أو حلاق مختص.. !
        توقعت أن يقول لي ميلود أنه كان مريضا.. أو أن أمه منعته من المجيء.. أو غيرها من التبريرات الكاذبة، والتي كنت أعرف أنها كاذبة، لكني كنت أتغاضى عن التدقيق فيها، أتظاهر دائما أني صدّقتهم حتى لا يفقدوا ثقتهم في.. ولكي يصارحوني أكثر..
        هم معذورون فعلا..  فلابد أنهم ملّوني.. تعبوا من حكاياتي المتكررة.. وأوامري ونواهي التي لا تنتهي..
        أعدت السؤال مرة أخرى مُحاوِلة إِظهار أكبر قدر من غضب لا يوجد بنظراتي..
-         نعم أجبني أنا أنتظر ردك.. لماذا تغيبت أمس؟
لم يكن لينتظر تكرار سؤالي.. فقد أزعجته وهو يخربش في دفتره.. أجابني ببساطة الأطفال:
-         ذهبت مع أمي لزيارة أبي في قرية "الدابزة"
    وقرية "الدابزة" هذه قرية شاطئية يجتمع فيها البحارة، ومراكب الصيد، وكل ما يتعلق بالبحر، وكل من جعلوا منه مصدر رزق لهم ولعيالهم.. ولأني أحيانا أكون مستفزة أو فضولية.. تماديت في أسئلتي..
- ماذا كان يفعل أبوك هناك؟
- مات..
- نعم؟.. ماذا؟..
     لم أفهم جيدا.. أو لربما رفضت أن أفهم.. رغم أن الكلمة لا تحتمل معنيين.. لقد مات.. أبوه مات..
تولى بقية التلاميذ مهمة الشرح.. ببساطة الأطفال.. وهم يبتسمون..
-         نعم يا أستاذة..إن أباه بحار
-         لقد غرق فمات..
-         ذهب هو وأمه لرؤية أبيه عندما مات..
        كانوا يتكلمون دون أن يعرفوا معنى كلمة مات.. حاصرتني عيونهم.. حاصرتني كلماتهم من كل جانب.. ما هذا يا إلهي.. ؟ ألهذا الحد مفهوم الموت أصبح مجردا؟.. ألهذا أصبح الموت مجرد شيء عادي ويومي بالنسبة لهؤلاء  الأطفال الكبار؟؟..
        أحسست بالاختناق..وأنا أتراجع إلى الخلف.. هاربة من عيونهم البريئة.. الحزينة..
       صعب جدا أن تكون ذكيا لتتفهم هؤلاء الكبار.. الموت بالنسبة لهم في هذه القرية الشاطئية حيث يعود البحارة دون رفاقهم أصبح حدثا عاديا.. مألوفا بالنسبة للناس.. يرونه ويستنشقونه كما يستنشقون الهواء ويشربون الماء.. بالنسبة لأطفالهم فهم لازالوا لم يعرفوا معناه الحقيقي سوى غياب آبائهم، أو تخلفهم في العودة إلى شاطئ البحر.. عودة المركب فارغا من بحارته حين ترميه الأمواج منكسرا كما تنكسر قلوب الأمهات والزوجات الثكالى حزنا على فقدان أحبتهم دون كلمة  وداع أخيرة..
       أذكر ذاك اليوم الذي صادفت فيه امرأة مُسنة.. كانت تحمل على ظهرها رضيعا.. هكذا وبدون مقدمات بدأت تحكي ليه قصة أب الرضيع.. قصة ابنها البكر الذي تزوج قبل شهور.. خرج كغيره من البحارة ذلك المساء في مركب صيد صغير..  وكانت العاصفة ليلا.. ترقب الكثيرون ليلتها الأخبار.. فكانت الفاجعة.. خرج الجميع ولم يخرج أحمد..
        كانت تحكي دون أن تنظر إلي.. ظننت للحظة أنها كانت تحكي لنفسها.. ولا تحتاج مني تعليقا أو مواساة.. كانت تهدهد الرضيع حينا.. وتنوح حينا آخر.. وأنا كنت واقفة مكاني.. قدماي شُلّتا تماما.. لا تسعفاني لترك المكان.. ولا لساني يُسعفني لأوقفها عن الحديث..
         هذا قدرك أيتها الأم الثكلى.. أن تنعي ابنك الوحيد، هذا قدرك أيتها القرية البحرية.. أن تفقدي كل يوم أحد رجالك.. وهذا قدري أنا أيضا.. أن أودع معهم كل يوم بعضا ممن لا أعرفهم.. قدري أن أرى الحزن مرسوما في عيون تلامذتي كلما شاء البحر ذلك..
                                                                                                                            آسفي19-11- 2002

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق